الفرق الكلامية: 2- فرقة المعتزلة

التعريف

المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل في فهم العقيدة الإسلامية وبهذا الاعتبار تعينت كخصم بالنسبة للذين أصلوا للدين من خلال ظواهر النصوص أو الذين سبقوا الشرع على العقل في بناء المفاهيم الدينية وتصورها. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية (*) والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.

التأسيس وأبرز الشخصيات

 اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال، واتجهت هذه الرؤية وجهتين:

ـ الوجهة الأولى: أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة (*)، والحديث في القدر، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب:

1 ـ أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين.

2 ـ أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقلة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن: “اعتزلنا واصل”.

3 ـ أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.

ـ الوجهة الثانية: أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين.

• أما القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ مؤرخ المعتزلة ـ فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمراً مستحدثاً، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اعتزل الشر سقط في الخير).

• والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي في النصوص الدينية. • قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل (*) ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي:

*مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها: معبد الجهني، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث .. وقد قتله الحجاج عام 80هـ بعد فشل الحركة .

*وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك.

* ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات، قالها الجهم بن صفوان.

*وممن قال بنفي الصفات أيضاً: الجعد بن درهم.

* ثم برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80هـ ـ 131هـ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة (*) في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمناً ولا كافراً) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى: الواصيلة.

الأصول الخمسة عند المعتزلة

التوحيد

 الأصل الأول عند المعتزلة التوحيد: عرَّف المعتزلة التوحيد بأنه: ( العلم بأن الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقه، والإقرار به )[1].

ومبدأ التوحيد المعتزلي يقوم على نفي الصفات الزائدة على ذاته و أنه تعالى مختص بالقدم (ليس كمثله شئ) و ما دونه محدث[2].

أركان التوحيد

ينقسم وجوب النظر في معرفته تعالى على وجهين إثبات ونفي وهما يشكلان أساس معايير التوحيد، وإن هذه المعايير لها ثلاثة وجوه ويترتب على ذلك النفي والإثبات، وهي[3] :

– الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق حتى ينفي عنه ما يتعلق بالمخلوقين كله.

2- الفرق بين الصفتين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين.

3- الفرق بين الفاعلين حتى لا تشبه فعل القديم بفعل المخلوقين.

وما يترتب على هذه المعايير مخالفتهم تدفع إلى خلاف التوحيد، فمن شبه بين الصفتين ومثل بين الفعلين فقد جمع بين الذاتين، وخرج إلى الشك والشرك بالله وبرئ من التوحيد والإيمان[4]

ويؤكد القاضي عبد الجبار لوازم للتوحيد حيث يدور على خمسة أصول هي[5]:

1- إثبات حدوث العالم.

2- إثبات المحدث.

3- بيان ما يستحقه من الصفات.

4- العلم بما لا يجوز عليه من صفات المخلوقين.

5- إثبات وحدانيته.

الوحـدانيــة

من أهم ما يستدل به المعتزلة لإثبات أنه تعالى واحد هو دليل التمانع والذي يقوم على نفي التعدد إذ لو كان مع الله ثان، لم يخل من أن يكون غير واحد، وهذا لا يصح لأنه يجب إذا كان قديماً أن يكون مثلاً له لأن القديم صفة من صفات النفس، وهذا يوجب التماثل، فإذا كان تعالى قادراً بنفسه وجب في الثاني أن يكون أيضاً قادراً بنفسه، ولو كانا كذلك لوجب إذا أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته، وهذا لا يكون فعل أحدهما بالوجود أولى من فعل الآخر، وهذا يوجب إما أن لا يوجد مرادهما جميعاً، وفي ذلك أجاب ضعفهما، أو أن يوجد مراد أحدهما بدون الآخر، وهذا يدل على ضعف الثاني، فإذا لم يتحقق شيء من هذا، فثبت أن يكون تعالى واحداً صمداً[6].

أ – نفي الصفات الإلهية

ومن وجوه التوحيد في نظر المعتزلة أنه واحد في كل وجه، لذا نجدهم قد نفوا عن ذاته كل الصفات الزائدة على ذاته تعالى وتقدس، وقالوا: إن صفاته تعالى عين ذاته، فهو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بنفسه[7].

فقد نفت المعتزلة صفات المعاني عن الله (كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر)، لما يلزم من ذلك في تعدد القدماء بزعمهم. و كانوا يقولون: “ان إثبات صفات قديمة بجوار الذات،  هو إثبات الإلهين قديمين و محال و جود إلاهين قديمين، لان القدم وصف لذات واحدة”[8]، و نفيهم لصفات الله ليس بمعنى إنكارهم لوجودها كما يتصور، فهم قد اثبتوا عينية الصفات، لكنهم نفوا في ان تكون هذه الصفات زائدة عن الذات فكان أبو هذيل العلاف يقول: (الله عالم بعلم و علمه ذاته، و قادر بقدره و قدرته ذاته  و هكذا في سائر الصفات) [9].

وفلسفة المعتزلة في هذه القضية قائمة على مخالفة عقيدة الإسلام للتفسير المسيحي الذي يقضي بوجود ثلاثة آلهة أو أقانيم ثلاثة وهي الأب والابن وروح القدس التي هي رمز الوجود والعلم والحياة القدماء الثلاثة.

ب- نفي التشبيه والتجسيم

يمثل التنزيه المطلق للباري تعالى وتقدس عن مشابهة الحوادث والإتصاف بلوازم الجسمية ركيزة أساس في أصل التوحيد عند المعتزلة[10].

ولقد أوجبت المعتزلة تأويل كل الآيات المتشابهة التي تستلزم في ظاهرها الوقوع في مغبة التجسيم والتشبيه، وأهم تلك النصوص، ما ورد فيه ذكر الصفات الخبرية[11]، كالوجه والكفين، واليد والساق، والاستواء، إلى غير ذلك، ويقول صاحب الملل والنحل في هذا: ((فهم جميعاً يؤولون كل آية توهم تشبيه الباري، ويستدلون على هذا بقوله تعالى)ﱠ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( سورة الشورى، الآية 11)، لأنها (أي: النصوص بظاهرها، تشبه بالحوادث، أو تنسب إليه ما يصوره جسماً، ويرون بأدلة العقل والنقل، أقوال المشبهة

ومن الامثلة على تاويل المعتزلة لآيات الصفات من القرآن الكريم، لقد ذهب المعتزلة إلى حدوث الكلام، وأنه من لوازم الحروف والأصوات، فكلام الله تعالى، عندهم مخلوق[12].

وقالوا إن كلامه حروف وأصوات، ولكنها ليست قائمة بذاته، وإنما يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ، وهو حادث[13]. ولعل السبب في ذهاب المعتزلة إلى هذا المذهب: خشيتهم من أن يقول المسلمون في القرآن ما قالته النصارى في المسيح (عليه السلام) أنه غير مخلوق، لأنه كلمة الله[14].

خلق القرآن عند المعتزلة

ترى المعتزلة أن الكلام مخلوق ومحدث وعرفوا في التاريخ بقولهم بخلق القرآن، واستدلت المعتزلة على حدوث القرآن: بان القرآن لا يخلو أما أن يكون شيئاً أو لم يكن، وليس جائزا ان يقال ان القران ليس بشئ، لأنه كفر، فيتعين أن يكون شيئاً[15]، و قد قال تعالى (الله خالق كل شئ)(سورة الزمر، الآية: 62)، فيكون خالقاً للقرآن ايضاً، باعتباره شيئاً، وإذ لو لم يكن شيئاً فيكون حجة الله على خلقه ليس بشيء[16].

كما استدلت المعتزلة بالعديد من ظواهر النصوص القرآنية، التي تؤكد أن القرآن محدث بهذه الصيغة نفسها، أو بتصريفاتها أو بما شابهها من الألفاظ الدالة حدوثه بعد أن لم يكن[17].

فوصف بالإنزال، وهذا لا يصح إلا في الحادث لأن القديم يستحيل ذلك عليه، والكلام إن لم يصح أنزله لأنه لا يبقى، فقد يصح إنزال الكتاب وإنزال ما يقوم مقامه من الحكاية، ومنها: إنه وصفه بأنه أنزله بالحق وتخصيص نزوله يدل على حدوثه، ومنها: أنه جعله متأخراً عن التوراة والإنجيل وجعلهما قبله، وما غيره قبله لا يكون إلا محدثاً[18]. فإذا كان الكلام حروفا منظومة، و أصواتاً مقطعة، فهو عرض خلقه الله لان الأعراض محدثة، لهذا كان كلامه محدثا، فإذا كان الكلام محدثا، فالقرآن محدث ايضاً لان كلا منهما خلقة أحداثه[19] غير إن هذا لا يعني، إن الله تعالى أحدث الكلام في ذاته، و لكنه أحدثه في محل، لان مثل ذلك لا يجوز، لان ذاته تعالى ليست محلا يتصف بالجسمية والعرضية فيصبح ذاته محلا للحوادث.

رؤية الله
وأيضا استدلت المعتزلة على أن رؤية الله ممتنعة بالإبصار، وفي دار القرار، وأولوا كل ما ورد من النصوص تأويلاً يناسب دعواهم هذه([20]). حيث يؤولون الرؤية بانها رؤية علم ومعرفة ([21]). واستدلوا على إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة، بنصوص كثيرة من القرآن الكريم إضافةً إلى استدلالاتهم العقلية وإخضاع هذه النصوص لها.         يقول القاضي عبد الجبار: (إنه تعالى لا يرى بالإبصار لا في دار الدنيا ولا في الدار الآخرة مع جواز الرؤية بالمعرفة والعلم عليه، فنحن لا نراه الآن، ولو افترضنا رؤيته لوجب أن نعلمه، لأن من حق من نراه نعلمه على ما هو به، ولما كنا نفتقد العلم الضروري به، تعين لنا أنه ليس بمرئي لنا الآن)([22]). ولأن الرؤية عندهم تعني: اتصال شعاع بين الرائي والمرئي ويشترط في مثل هذا الاتصال تعين القوام المادي لها([23]). لان الابصار تدرك الاجسام والله منزه عن الجسمية لأنها من صفات النقص والله كامل لا نقص فيه ولقد جاءت المعتزلة إضافة الى الأدلة العقلية في نفي الرؤية بأدلة سمعية من الكتاب الحكيم لتوثيق قولها هذا. فيورد لنا الرازي استدلال المعتزلة في نفي الرؤية مستندين الى الآية الكريمة: 1-قوله تعالى: “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار”([24]). وفي تأويل الآية: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة  يقول الجبائي: إن كلمة (إلى) في هذه الآية نفسها ليست حرف جر بل اسم معناه (نعم) فهو مأخوذ من (الآلاء)، فيكون المعنى أن الوجوه منتظرة نعم ربها([25]). قد استدل المعتزلة على نفى الرؤية فى الدنيا والآخرة مطلقاً بعدة أدلة أخرى من القرآن، وأضافوا إلى ذلك أدلةٍ عقلية منها الآتي([26]) : أ- إن الآية في سياستها لم تحدد (النظر) بالبصر فلم تقل ناظرة بالبصر. ب- إن النظر يحتمل عدة معان بأن يكون الناظر، مفكراً، أو منتظراً للرحمة وطالباً للرؤية فهو محتمل إذاً ولا يترك به ما لا يحتمل. ج- إن تأويل النظر في الآية بمعنى الانتظار، فمعناه: منتظرة لرحمة الله وناظرة إلى ثوابه، ونعيمه في الجنة. هـ- استبعاد أن يكون النظر في اللغة هو الرؤية لأن الانتظار عبارة عن تقليب المحدقة الصحيحة نحو المرئي التماساً لرؤيته، وأما الرؤية فهي إدراكنا للمرئي كنتيجة لاتجاه الحاسة نحوه، لا يتحتم أن يكون النظر مؤدياً إلى الرؤية، فالإنسان قد ينظر ولا يرى([27]). وهذا مثال على ان المعتزلة، أخضعوا اللغة العربية ودلالات اللفظ إلى العقل، وقد تقدم الكلام عن هذا الجانب من استدلالات المعتزلة باللغة العربية.
العدل عند المعتزلة :
وهذا هو الأصل الثاني من أصول المعتزلة، ومن ذلك جعلوا مقتضى العدل الإلهي وبعدًا عن عقيدة الجبرية أن يكون العبد خالقًا لأفعاله من خلال نظرية التوليد التي يخلق بها العبد أفعاله بواسطة قدرة أعطاه الله إياها.  وتحت هذا العنوان مفاهيم متعددة مثل: خلق أفعال العباد، وتنزيهه تعالى عن فعل القبيح، والهدى والضلال، وغيرها من المسائل التي استدلت عليها المعتزلة بالنصوص القرآنية وخالفت فيها بقية الفرق الكلامية مثل الأشاعرة. واكتفي في هذا المقام بتفصيل الكلام في مسألتين هما خلق أفعال العباد ومراعاة الاصلاح والاصلح للعبد.
خلق أفعال العباد: 
ما هو معلوم أن المعتزلة يقولون بحرية العبد وأن العبد مختار لأفعاله، أوجد فعله بقدرته وإرادته مستقلا بذلك عن القدرة والإرادة الإلهية فالله سبحانه وتعالى لا يريد من العبد المعاصي ومع ذلك فهي تقع من العبد بإرادته وحده وهكذا يمكن على حسب قولهم وقوع ما لايريده الله سبحانه وتعالى في ملكه. وبما أن المعتزلة حكمت على الله بأنه عادل، فلذا وجب عليه مراعاة الأصلح للعبد، وعدله يقتضي، أن يجعل للإنسان قدرة وإرادة ما دام مكلفاً بحيث يحدث الإنسان أفعاله بنفسه من دون أن يكون لله تعالى فيها صنع ولا تقدير بإيجاب ولا نفي، ويستدلون على هذه بنصوص من القرآن الكريم لإثبات هذه المسألة. استدلوا بقوله تعالى ) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (( سورة المدثر، الآية 37). وألواضح أن القول بحرية الإرادة للإنسان ونفي القدرة عنه (التفويض) إنَّما جاء رداً على الجبرية، الذين سلبوا عن الإنسان كلّ إرادة حتى جعلوه كريشة في مهب الريح([28]).
 2) مراعاة الإصلاح والاصلح للعبد([29]) :
حكمت المعتزلة انه واجب على الله مراعاة الاصلح للعبد وبناء على هذا الاساس منع المعتزلة التكليف بما لا يطاق و أوجبوا على الله تعالى فعل الاصلح للعبد تبريراً للعقاب الأخروي ([30]).
الوعد والوعيد عند المعتزلة : مفهوم الوعد والوعيد عند المعتزلة كما بينه القاضي عبد الجبار قائلاً: (الوعد: كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل بلا فرق بين أن يكون حسناً مستحقاً وبين أن لا يكون كذلك )([31]). وأما الوعيد: (كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى غيره أو تفويت نفع عنه في المستقبل، ولا فرق بين أن يكون حسناً مستحقاً وبين أن لا يكون كذلك )([32]). وشرط الاستقبال في الحديث لابد منه وبدونه لا يكون واعداً ولا وعيداً([33]).  وقالوا أن الله تعالى، صادق في وعده ووعيده فلا يغفر الذنب إلا بعد التوبة فلو غفر له من غير توبة لزم الكذب في وعيد الله. يقول الإمام البغدادي: (اتفق المسلمون على أنه تعالى وعد عباده المطيعين بالثواب، وتوعد الكافرين منهم بالخلود في النار)([34]). فالله توعد المخالفين أوامره العذاب يوم القيامة خلافا للوعد الذي هو ما اعده الله للمطيعين أوامره يوم القيامة من الجنة ونعيمها. إلا أنهم اختلفوا في دوام وانقطاع العذاب للمذنبين، فيرى المعتزلة أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب، وإذا خرج من الدنيا عن كبيرة أرتكبها أستحق الخلود في النار، ولكن عقابه أخف من عقاب الكافر، وهذا هو الوعد والوعيد عند المعتزلة. وهذا الأصل عند المعتزلة متعلق بأفعال العباد ومبدأي الثواب والعقاب وبالتالي فهو فرع عن الأصل الثاني للمعتزلة هو العدل، وذلك أن كونه عادلاً لابد من أن ينجز ما وعد به وما توعد وهو صادق في وعده ووعيده([35]).ولقد جاءت المعتزلة بأدلة سمعية اضافة الى الأدلة العقلية في توثيق هذا الاصل، وان اختلاف المسلمين في هذا الاصل هو (ان عموم اتجاهات الفكر الإسلامي توثق ايمانها باليوم الاخر توثيقا اما من القرآن الكريم او الحديث النبوي الشريف اما المعتزلة اضافة الى الأدلة السمعية جاءت بأدلة عقلية في توثيق هذه المسألة)([36]).
المنزلة بين المنزلتين :  
وهي منزلة الفاسق في الدنيا عندهم، فهو لا يُسمى مؤمنًا ولا يُعد ‏كافرًا، وكان تعليل المعتزلة لتلك المنزلة الوسطى التي أنزلوها مرتكب الكبيرة أن الإيمان لو كان موجودًا لعصم صاحبه من الكبائر. وهذا الأصل هو الرابع للمعتزلة، فهو الأصل الذي يعده المؤرخون النقطة الفاصلة لفكر المعتزلة عمن سواهم، بل هو النواة الأولى لنشأة المعتزلة كما هو معروف تاريخياً، كيف اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري([37]). ملخصه: إن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً و لا كافراً و لكن في منزلة بين المنزلتين… ([38]) و كذلك لا يكون حكمه حكم الكافر و لا حكم المؤمن، بل يقرر له حكم ثالث وراء التسمية المنزلة بين المنزلتين، ذلك ان صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر و لا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما ([39]).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:  
هذا هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة، فقد أولت المعتزلة هذا المبدأ اهتماماً واضحاً، و جعلته فرضاً من فروضها العملية من خلال التحدي الذي فرضته عليها و على الإسلام فرق المخالفين من المشبهة و التثنوية و المعطلة ([40]). وهو أصل يتعلق بالجوانب الأخلاقية العملية ولا يتصل بالبحث النظري([41]). فالعدالة عند المعتزلة لا تنحصر في تجنب الأذى والظلم اللذين يصيبان الفرد بل هو عمل الجماعة جميعها في خلق جو من المساواة والانسجام الاجتماعي لذا عليها السعي في رفع الظلم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومنهم من جعل تنفيذه محدوداً في اللسان فقط([42])، في حين أوجب المعتزلة إنفاذ هذا المبدأ بكل الوسائل المتاحة المختلفة (باللسان و اليد و السيف) ذلك ان هذا المبدأ في رأيهم من أولى الواجبات الأخلاقية التي ينبغي ان يتولاها المسلم و ينفذها ([43]).
قيمة العقل.
وهنا مسألة لا بد من ذكرها وهي ان المعتزلة وكما هو ثابت تقول ان معرفة الاصول هي معرفة عقلية وانه لا يجوز التقليد في الاصول والإنسان مكلف بمعرفتها قبل ورود الشرائع فنراهم يقولون في هذا الصدد (ما لم يعرف كل مسألة- أي المكلف) بدلالة العقل على وجه يمكنه دفع الشبهة لا يكون مؤمنا)([44]). فهم يؤكدون على ان معرفة الاصول والإيمان بها لا تكون الا بدلالة العقل اما السمع فياتي مؤيدا ومثبتا لدلالة العقل. فإن المشكلة المنهجية العظمى التي واجهها المعتزلة هي ما توهَّموه من التعارض بين العقل والنقل، ولم يدركوا أن هذا التعارض لم يكن ــــ في حقيقته ــــ بين العقل والنقل، وإنما هو تعارض بين النقل، وبين ما كانوا يعتقدون أنه حكم العقل، فعندما اعتقدوا أن هنالك تصادماً بين العقل وبين النصوص الشرعية وضعوا قاعدتهم التي أسسوا عليها مذهبهم، وبنوا عليها آراءهم، وهي ” تقديم العقل على النقل “، بحيث إن النصوص التي اعتقدوها مخالفةً للعقل يجب أن تُؤوَّل، أو تُردَّ إذا لزم الأمر. وقال محمد أبو زهرة: ( إن المعتزلة تمسَّكوا بالقول: بأن العقل قادر على فهم النصوص واستنباط مرمى الوحي، ولهذا رأوا وجوب تأويل الآيات المتشابهة، وإقامة الإيمان على أسس عقلية واضحة، واستندوا في منهج التأويل إلى دليل التنزيه الذي آمن به السلف أيضاً )([45]). وتقديم العقل على النص، ولكنه تقديم لا يلغي النص ولا يغض من شأنه، وإنما التقديم الذي يدل على وجوب تأويل ظاهر النص بما يتفق مع معطيات العقل وحججه، وأيضا التقديم النابع من تقدم موضوع الحجة العقلية على موضوع حجة النص. الا ان المعتزلة لم تنفي دور الشرع وتعول على العقل بل رأت ان ما يدركه العقل يتطابق وما يقرره الشرع. فالمعتزلة هم أصحاب العقل بلا منازع في الفكر الإسلامي؛ لذلك جاءت نظريتهم في الأصول الخمسة وفروعها مبنية على النظر العقلي المستند الى ما جاء في القرأن الكريم من إشارات لطيفة الى دور العقل في حياة الأنسأن. ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبحات، وبعض المحسنات، وبعض الواجبات، فيعرف قبح الظلم، وكفر النعمة، والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ويعلم حسن الاحسأن والتفضل، ويعلم وجوب شكر المنعم ووجوب رد الوديعة عند المطالبة، والأنصاف، ويعلم حسن الذم على القبيح اذا لم يكن هناك منع، وحسن الذم على الاخلال بالواجب مع ارتقاء الموأنع، وأنما يجب حصول هذه العلوم،لأنها لو لم تحصل لم يحصل للمكلف الخوف من الا يفعل النظر، وابتداء التكليف متعلق به، ولأنه لا يصح منه العلم بالعدل الا معه،لأنه متى لم يعرف الفرق بين الحسن والقبيح لم يصح أن ينزه القديم تعالى.. عن المقبحات، ويضيف اليه المحسنات)([46]).
المعارف واجبة بالعقل قبل ورود السمع:
هذا المبدأ يعطي للعقل صلاحية معرفة مطالب الدين من معرفة الخير والشر ومعرفة أصول الحقائق، ويفرض الحجية الإلهية على العباد وبالتالي يؤكد العدل الإلهي الذي طالما اعتبرته المعتزلة أصلا من أصولها. ويتفرع عن هذا المبدأ قاعدة التحسين والتقبيح العقلية فالحسن والقبح ذاتيان في الأشياء وبإمكان العقل الكشف عنهما حتى وإن لم يرد به الشرع، تؤكد المعتزلة على ان للأفعال قيما ذاتية يمكن للعقل ان يدركها، والشرع لا يخالف العقل في إدراك قيم الافعال. أي يمكن القول ان هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع أي ان العقل يدرك ان هذا الشيء حسن والشرع يؤكد نفس الشيء الذي ادركه العقل ونفس الشيء بالنسبة الى الأشياء القبيحة. فالقبح والحسن ذاتيان في الأشياء، والعقل بما ركب الله فيه من قدرة على التمييز يستطيع بمفرده الوصول إلى الحق فيها([47]). بل ينبغي أن يكون العقل هو الفيصل في هذا المجال لأن معرفتهما واجبة عقلية، لذا على الإنسان وجوب السعي لفعل الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور([48]).
1] – القاضي، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص128.
[2] – راجع: الخياط المعتزلي، عبد الرحيم بن محمد ( القرن 4)، الانتصار والرد على ابن الراوندي ما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم، تح: نيبرج، مكتبة الدار العربية- مصر،1993م،ص5. وأيضا: الراوي، ثورة العقل ، مرجع سابق، ص 34 ـ 35 .
[3] – أنظر: أصول العدل والتوحيد، 98.
[4] – انظر: الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق، ص318.
[5] – المختصر، 199.
[6] – أنظر: القاضي عبد الجبار، أبو الحسن بن أحمد( ت 415هـ)،المختصر، تح: محمد عمارة، د.م، د.ط، ص229.
[7] – الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق، ص321.
[8] – الراوي، ثورة العقل، مرجع سابق، ص 47
[9] – المرجع نفسه، ص47.
[10] – الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق،323.
[11] – سميت صفات خبرية، لورودها في الخبر، أو دلت عليها الأخبار، ولم يدل عليها العقل، لأن معانيها الظاهرية مستحيلة عقلاً، وهذا القول الثاني للدكتور محمد رمضان عبد الله.
[12] – البيجوي ، إبراهيم بن محمد (ت 1277هـ)، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، دار الكتب العلمية- بيروت، 2004م، ص84. الدوري، أصول الدين الإسلامي، مرجع سابق، ص164.
[13] – الايجي، شرح المواقف، مصدر سابق، ج8، ص92.
[14] – رمضان، الباقلاني وآراؤه الكلامية، مرجع سابق، ص524.
[15] – القزويني، زكريا بن محمد بن محمود ( ت 682هـ) آثار البلاد واخبار العباد، دار صادر – بيروت، 1960م، ص262.
[16] – الكناني، عبد العزيز بن يحيى ( ت 240هـ)، الحيده والا عتدال في الرد على من قال بخلق القران، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة، 2002،، ص49.
[17] – الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق، ص351.
[18] – القاضي عبد الجبار، المختصر، ص 195.
[19] – الراوي، ثورة العقل، مرجع سابق، ص 213.
([20]) أنظر: شرح المقاصد، ج2، ص 62.
([21]) النيسابوري، المختصر، مصدر سابق، ص618.
([22]) القاضي عبد الجبار، المغني ، مصدر سابق، ج 4، ص99.
([23]) أنظر: القاضي عبدالجبار، المغني، مصدر سابق، ج 4، ص 62.
([24]) سورة الأنعام: 103.
([25]) انظر: رمضان، الباقلاني وآراءه الكلامية، مرجع سابق، ص562.
([26]) أنظر: القاضي عبد الجبار، المختصر، مصدر سابق، ص190. الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق، ص343.
([27]) أنظر: النيسابوري، سعيد بن محمد (ت هـ)، ديوان الأصول، تح: محمد عبد الهادي ايو ريده، المؤسسة المصرية للطباعة والنشر- مصر، د.ت، ص604.
([28]) عبدالجبار، القاضي، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص124.
 ([29]) أن المعتزلة يقولون بوجوب الصلاح والأصلح؛ ما عدا بشر بن المعتمر ومن تابعه، فإنهم خالفوا في وجوب الأصلح فقط. للمزيد أنظر؛ المفيد، أوائل المقالات، مصدر سابق، ج1، ص278. وايضا: الشهرستاني، نهاية الاقدام، مصدر سابق، ص297.
([30]) عبد الحميد، عرفان، دراسات في الفكر الإسلامي العربي، دار عمان- الأردن، د.ت، ص262.
([31]) القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص 124.
([32]) المصدر نفسه.
([33]) الاعرجي، مناهج المتكلمين، مرجع سابق، ص340.
([34]) البغدادي، أصول الدين، مصدر سابق، ص242.
([35]) الراوي، ثورة العقل عند المعتزلة، مرجع سابق، ص 44.
([36]) الراوي، فلسفة العقل، مرجع سابق، ص 93.
([37]) أبو لبابه، موقف المعتزلة، مصدر سابق، ص46.
([38]) الراوي، ثورة العقل ، مرجع سابق، ص 44 .
([39]) المرجع نفسه، ص 45 .
([40]) انظر: الراوي، ثورة العقل ، مرجع سابق، ص 46 .
([41]) النشار، نشأة الفكر الفلسفي، مرجع سابق، ص 350.
([42]) الاشعري، مقالات الإسلاميين، مصدر سابق، ج1، ص311.
([43]) الراوي، ثورة العقل ، مرجع سابق، ص 47،
([44]) ابي عُذبة، الحسن بن عبدالمحسن (تبعد 1785مم)، الروضة البهية في ما بين الاشاعرة والمتريدية، دائر المعارف النظامية-، الهند، د.ت، ص 23.
([45]) أبو زهرة، محمد احمد، المذاهب الإسلامية، مكتبة الآداب- مصر، د.ت، ص 168.
([46]) القاضي عبد الجبار، المغني، مصدر سابق ، ج11، ص384
([47]) أبو لبابة، حسين، موقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها، مطبعة اللواء للنشر والتوزيع- السعودية، 1987م، ص67.
([48]) أبو لبابة، موقف المعتزلة من السنة، مصدر سابق، ص 67.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *