عيش الإنسان ولا يفكر في نفسه وفيما يحيط به، وأهم سؤال يفكر دائما في الإجابة عنه هو كيف يلبي الرغبات التي تضج في نفسه وبين جنبيه ودائما يبحث عن الجواب وإذا وجده، فكر مسقبلا كيف يسهل طريقه، وهكذا الأمر يبقى جدّ عادي ما دام يستطيع توقيف ضغط رغباته، لكن في لحظة من لحظات هذا العيش يطل عليه سؤال يبدو غير ضروري وفي شكل عرضي يشبه الفضول والترف، وهو من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا هذه الحياة التي تسكنه وتريده عبدا لها؟ خصوصا وأنها حياته هو وعيشه هو، فما هو؟ وهل هو شخصان في بدن واحد؟ ؛ طالب ومطلوب. أم هو هو؟ الذي يلح في طلباته لنفسه وبدنه وهو الذي عليه أن يسعى لتلبية هذه الطلبات الملحة كأننا أمام سيد وعبد في بدن واحد.
فمن أنا؟ وما الحياة؟ وهل هناك إمكانية لنموذج عيش غير هذا؟
أسئلة تشبه طلاسم إيليا أبو ماضي فكيف يهتدي إلى جواب؟ وما السبيل لإسكات هذا الطالب الجديد؟.. الوحيد الذي يخرجه عن طور العيش الذي ألفه ويكاد يحتل ساحة نفسه وكأننا أمام كائن جديد ورغبة أخرى لكن وسائلها ليست في محيطه القريب من بدنه بمعنى ليست من هذه الأرض التي ظل يصطاد منها لعيشه والتي جعلها سلة لحياة بدنه وأمنا لنفسه.. كائن جديد يطلب سلة غذائه من أرض جديدة غير هذه الأرض..
بمجرد سؤاله يبدأ يفتش عن الجواب خارج ذاته من تاريخه وتاريخ أشباهه يسمع بأن هناك نموذج حياة أخرى غير حياته التي ألفها قد تأتيه من خبرته، من نفسه، من إنسان يعيش في محيطه أو كان قد عاش قبله.
يسمع ويبدأ يطابق ما سمعه مع ما يصلح لعيشه وأمنه وأمانه، وكيف وقّف هذه الأسئلة الجديدة، وهذه الحالة قد نسميها حالة المعرفة وإذا استقر عليها سميناها يقينا وعلما..
ويتحول السؤال عنده إلى:
هل هناك جوابا واحدا لهذه الأسئلة ام هناك أفكار ويجب تحقيقها والاختيار بينها؟، نفس الأمر الذي يحدث له في تلبية رغباته بمعنى، هل هناك أسلوب يسهل تحقيق الرغبات ولا يورث مشاكل تصعب حلّها، وهل هناك أسلوب لا يورث الأمن والإشباع السهل؟. فكذلك في هذا الطريق الجديد لكائنه الثاني وهو نفسه وعقله أو قل روحه، أكيد لها أجوبة وكل جواب منه ما يليق بهذه النفس ومنه ما لا يليق بها..
إذن، فلنسم ما يليق، هو الحكمة وما لا يليق، هو الجهل أو الحماقة..
فكيف نحصّل الحكمة وكيف نبتعد عن الحماقة والجهل؟
وهل الحكمة من مصدر خارج ذات الإنسان كما هو مصدر عيشه أم هي قارة في ذاته وبحكم قرارها في ذاته لا يدركها كالشجرة التي تغطي على الغابة. إذا كانت خارج ذاته فأين يحصلها وكيف يحصلها؟.. هنا يجب استعادة تجربة حي ابن يقظان لابن طفيل لمعرفة نوع من الحكمة سماها بالحكمة المشرقية ذات المصدر الإلهي، أو نبحث فلاسفة آخرين اقتفوا أثر أرسطو حيث رأى هؤلاء افلاسفة أن الإنسان بيده ما يهديه فقط عليه أن يفعل عقله وسمي هذا الطريق لتحصيل أجوبة هذه الأسئلة بالحكمة المشائية ذات المصدر العقلي.
أولا ما الحكمة؟
الحكمة في المعنى العام التصرف الصحيح الموافق للعلم الصحيح بالواقع والحياة أو العلم بالوجود بما هو موجود والتشبه به.
والانسان الحكيم هو الذي قوله حق وفعله عدل وخير فهو في سلوكاته وأقواله لا يجانب الغاية الكبرى للوجود والحياة.
لذا عرّفها فلاسفة الإسلام بأنها: “صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني”
فالحكيم هو الذي تطابق رؤيته الواقع والحياة أي الوجود، طبعا بحسب قدرته وطاقته بحكم كونه إنسانا.
والحكمة في نوع الإنسان ليست متحصلة بكليتها فيه فهي تحصل له بقدر جهده في تحصيلها وعلى قدر طاقته. لذلك تجنب كبار حكماء اليونان قبول صفة الحكيم كوصف للمتحقق بهذا الفن أي الحكمة بحكم ممارسته له أي فن العلم بحقائق الأشياء، لأنهم رأوا أن الحكمة هي صفة ونعت يليق بالآلهة. ومادامت الآلهة في تصورهم هي من أبدعت هذا الوجود فهي العليمة به حقا، ومن غير خطأ، فهي الحكيمة: أي فعلها عدل وقولها حق وتصرفها كله خير وجمال.
أما الإنسان فهو عاشق لهذه الحكمة مادام دوما ينزع إلى موافقة الحق في قوله وموافقة العدل والخير في تصرفه ومستهدفا الجمال والانسجام مع الوجود الجميل.
وقد اصطلح حكماء اليونان تسمية فن قول الحق وفعل العدل والخير والتطلع للجمال بالفلسفة لأنهم كما سبق أن قلنا اعتبروا أن من يطابق قوله الوجود الحق ومن فعله كله عدل هو الآلهة فقط، أما الإنسان فلأن وجوده لا ينفك عنه النقص والجهل فلا يسعه إلا عشق الحق والعدل والجمال والخير. وهو في النهاية محب للحكمة عاشق لها طالب لها وسيظل عمره كله متطلعا إليها، لذا جرى تعريف هذا الفن أي فن الفلسفة بأنه معرفة الوجود بما هوموجود والتشبه بكمالاته بحسب طاقة الإنسان والإنسان طاقته لا تفتأ تتدرج وليس لتدرجه نهاية فلا نهاية لفلسفته بمعنى لا نهاية لحبه للحكمة.
عندما انتقلت هذه الفلسفة إلى المسلمين وتلقفها بعض نبهاء الأمة أبقوا على التسمية كماهي ومن غير ترجمة إلى لغتهم العربية لأنهم اكتفوا بتعريبها من فيلاسوفيا إلى تبيئتها باسم الفلسفة، ومع ذلك يفضل فلاسفة الإسلام مصطلح الحكمة على مصطلح الفلسفة، فلقبوا بحكماء الإسلام وما دام هذا الفن يتغيا علم الأشياء بحقائقها فهو الحكمة لأن نهاية تحصيل هذا العلم هو قول الحق وفعل الخير والعدل.
فهم لم يتحرجوا من التسمية بالحكماء كون صفة الحكيم لا تليق إلا بالله الحكيم، ومشاركة الإنسان لله في التسمية لا تلزم مشاركته في حقيقة الحكمة.
لأن الإنسان المتحقق بهذا الفن من خلال التحصيل أو الوهب هو حكيم بالتبع أما الإله فهو أصل الحكمة وهي فيه أصيلة في وجوده أي باصطلاح حكماء الإسلام هي عين ذاته ومن صميم وجوده التام والكامل.. فلا إشكال في نعت الإنسان الكامل علما وعملا وصفة طبعا في إطار وجوده الرابط والفقير.
ثانيا: مفهوم الحكمة الإلهية
ففي العلوم الحكمية الإسلامية وخصوصا في الفلسفة والعرفان، فإن هذا المصطلح أي الحكمة الإلهية، قد يعني من جهة مصدر الحكمة كونها إلهية المصدر ومن جهة أخرى يعني موضوع هذه الحكمة وهو الإلهيات أي علم الوجود بما هوموجود.
فمن جهة كونها إلهية فهي حكمة تعلمها الإنسان من طريق الوهب والإفاضة الإلهية من خلال مسلك روحي وتزكية نفسانية، تجعل قلبه أو روحه أو سره مجلى لنزول المعارف الإلهية الربانية الحقة نبئه بحقائق الأشياء في نفسها. فالعلوم هناك عرفانية أو صوفية لا فرق بين التسميتين.
ومن جهة كونها إلهية بمعنى طبيعة مواضيعها وحقيقتها حيث يستعمل الإنسان التأمل العقلي في الأشياء ملتفتا عن كثرتها الحسية ومنتبها إلى وحدة ماهياتها بل متأملا في نور الوجود الذي يكسو العوالم ويخرجها من ظلمتها العدمية فهي إلهية لأن موضوعها الإلهيات بالمعنى الأعم باصطلاح لشيخ الرئيس ابن سينا والذي يصطلح عليه بلغة اليونان الميتافيزيقا وكذلك موضوعها الثاني الإلهيات بالمعنى الأخص كذلك باصطلاح ابن سينا أو الفلسفة الأولى كونها تدرس البربوبية وأوصافها ونعوتها وأفعالها.
فالبحث في هذه المواضيع يدفعنا إلى تحريك فكرنا نحو الأصول وبالذات البحث في الرؤية الكونية ورؤية الوجود والحياة، وهذا الاهتمام يمكننا من مواجهة فاصيل مشكلاتنا اليومية، فأنت لا تستطيع التصرف بحكمة من خلال جمع المعلومات وتكثيف معارفنا الجزئية لأن هذا يجعل الإنسان يتيه في فوضى الحيرة والشك وقد يسبب له اليأس بل قد يدفعه إلى الإلحاد أو الشرك بمعناه الفلسفي وليس الديني فقط.
فالمشكلات نواجهها برؤيتنا الكلية للوجود وللحياة وهذا يجعلنا لا نندهش أمام كثرة المعلومات وكثافة المشكلات بل نتمكن من إعادة المشكلات إلى أصولها ومعرفة جذورها لحلها
ثالثا: لماذا الحكمتين الالهامية والعقلية؟
الحكمة كما أعرفها لا تحصل فقط بطريق واحد بل هي من طرق مختلفة أو قل مصادرها متعددة ويمكن حصر هذه الطرق في شعبتين شعبة الإلهام فتسمى حكمة إلهامية وشعبة العقل والنظر العقلي وتسمى بالحكمة العقلية.
أ ـ الحكمة الإلهية الإلهامية
باختصار: لأن مصدرها منبع الوجود أو قل الوجود حقا وبالتالي لا يمكن أن يكون الإنسان حكيما ما لم يستلهم قواعد حياته وعيشه من الوجود نفسه فيكون دستورا إلهيا حقق الناموس الإلهي أو قل ناموس الوجود، حيث يصير الإنسان عالما إلهيا محققا للوجود في نفسه وفي محيطه من خلال تجربة الوجود في إطار تجاوز العقل إلى التعامل مع نافذة القلب حتى يتم إشراق نور المعرفة على النفس فينطبع العلم الإلهي في نفس الحكيم فتكون له حكمة إلهية. وطريقه إليها لا يكون إلا برفع الحجب الوهمية التي افترضها هو بفعل عاداته ومألوفاته الطبيعية، وهذه الحكمة نجدها مسطرة في دساتير حكمة الإشراق والحكمة المتعالية.
ب ـ أما الحكمة الإلهية العقلية
مصدرها نظر الإنسان وفكره الذي يسستخرجه من نفسه الناطقة فتكون نفسه الناطقة نافذته إلى الوجود مستبصرا قوانينه ونواميسه لينتهي في طوافه النظري إلى مستخلصات يستفيدها في انسجامه مع الوجود ومبادئه وهذا نلمسه فيتعريف الفلاسفة المسلمين لهذه الحكمة بأنها : ” صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني” وهذه الحكمة نجدها مسطرة في ألواح الفلسفة خصوصا عند أتباع المدرسة المشائية كأبي الوليد بن رشد والفارابي وابن سينا والكندي وغيرهم ممن وثقوا في عقولهم ودربوها على النظر والصبر في طريق تحصيل الحكمة منه.
خاتمة
أنا اخترت البحث في هذه المواضيع أي الفلسفة الإسلامية والعرفان والتصوف، وخصوصا الفلسفة الإسلامية لأني التمست هجرة غير صريحة من الباحثين لهذا الحقل المعرفي المتمثل في الفلسفة الإسلامية ومفاهيمها
واستنطاق مفاهيمها لمواجهة مشكلات عصرنا
ليكن شعارنا في المعرفة والسلوك التشبه بالإله على قدر طاقتنا كما عرفها الفيلسوف المسلم أبو يوسف يعقوب الكندي، أو صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني
لا نتوقف عند هذا السبيل ولنزيح عن أنفسنا غطاء المألوف والعادة نسمح لنواح الناي
كما عبّر عنه مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي ـ في أرواحنا بأن يجلي نواحه ويبوح عن عشقه لأصله