قبل الدخول في معرفة أهم الإشكاليات الكبرى التي حاولت الفلسفة العربية الإسلامية معالجتها يجب أن نتساءل عن نقطتين وهما مسألة أصالة هذه الفلسفة وماهيتها.
الجدير بالذكر أن الفلسفة الإسلامية حاولت معالجة عدة إشكاليات فلسفية تعلقت بالوجود والمعرفة والقيم وانتهت بنظريات في هذا المجال منها ما وافق رؤية فلاسفة اليونان وخالف ظواهر النص الديني، ومنها ما خالف فلاسفة اليونان وكذلك منها ما وافق بعض مقررات النص الديني سيما في القيم. وكان هذا الإنتاج النظري محل نقد وتساؤل وتشكيك من قبل المتأخرين خصوصا بعد القرن التاسع عشر؛ منهم المستشرقون والإسلاميون والحداثيون العرب، هذا النوع من التفاعل مع هذه الفلسفة يتطلب منا وقفة لتحليل الآراء ومناقشتها.
هل التراث الفلسفي الإسلامي من إنتاج المسلمين باستقلال؟
أثار وجود تراث فلسفي لدى المسلمين تساؤلات كثيرة منها هل هذا التراث من إنتاج العرب والمسلمين باستقلال أم هو مجرد نقل للتراث الفلسفي اليوناني. وكانت الأجوبة تنحصر في موقفين متضادين.
الموقف الأول
يرفض اعتبار هذا التراث أصيلا ويعتبره من إنتاج اليونان وما كان دور المسلمين سوى نقله إلى لغتهم العربية ومن ثم شرحه والتعليق على مطالبه، يمثل هذا الموقف الكثير من المستشرقين، ونحن هنا لا نحصر كل الدراسات الاستشراقية في كفة واحدة لأن هناك بعض المستشرقين ممن كان الطابع الموضوعي متمكنا في دراساتهم لتراث الشرق في عمومه وتراث المسلمين خصوصا العقلي منه، فلم يبطلوا الجانب الذاتي في الإنتاج الفلسفي عند الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا.
الموقف الثاني
يعتبر هذا التراث من إنتاج العرب والمسلمين بحكم التطور الفكري الذي تشبعت به حضارتهم في القرون الأولى من العصر العباسي، يمثل هذا الموقف فريق من الإسلاميين ممن تشربوا بالتوجه العقلاني في توجهاتهم، ويضاف إليهم بعض الأكاديميين العرب الذين حاولوا إنقاذ هذا التراث من التهميش الذي عاناه منتجوه من قبل المتعصبين الدينيين.
نحن سنحاول أن نقف على الموقفين ونلخص أهم الحجج التي استند إليها كل موقف.
موقف المستشرقين الرافض لأصالة هذا التراث
ملخص موقف هؤلاء المستشرقين أن التراث الفلسفي العربي الإسلامي ما هو إلا فلسفة يونانية مكتوبة باللغة العربية، بما يعني أن تراث الفلاسفة أمثال الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد خصوصا، ما هو إلى نقل للفلسفة اليونانية إلى ساحة اللغة العربية. وكل جهد بذل في خط التعامل مع هذا الإنتاج الفلسفي ما هو إلى تحليل للمفاهيم اليونانية وتعليقات عليها وشروح، ما يبقي لفلاسفة الإسلام فقط التنافس في فهم فلسفة أرسطو وشرحها ويسحب منهم أية مشاركة في إنتاج مفاهيم فلسفية جديدة أو مناقشة المفاهيم المترجمة.
الحجج
حجج هؤلاء المستشرقين تتركز على وجود موانع خلقية وثقافية تمنع التفلسف لدى العرب والمسلمين، منها طبيعة المفاهيم الدينية المركزة في النصوص الدينية التي تعوق النظر العقلي، ما دام المؤمن المطلوب هو الذي يصدق ويسلم بالمفاهيم الدينية تسليما تاما يخلو من التحقيق فيها والمشاركة في إنتاجها، لأن الكتاب حسم الموقف في المسائل الميتافيزيقية والطبيعية وما على المسلم سوى تصحيح فهمه والقبول بها، وكل تشكيك ونقد لمفاهيم النص الديني هو خروج عن الدين.
يضاف إلى ذلك ما تجذر في القومية العربية من تأثر بالأوهام ما يشوش على التجريد العقلي والصرامة الفكرية، كما أن الخلقة العربية لا تخرج عن قانون العرق المتحكم في الذهنية والتفكير، وبما أنهم من الجنس السامي فإن الطابع التجزيئي الخالي من التركيب بين الأجزاء المفككة، لا يساعد في إنتاج المفاهيم الكلية التي يتطلبها الفكر الفلسفي.
ملخص موقفي تنمان ورينان
نذكر في التدليل على موقف هؤلاء المستشرقين نصوصا تبين هذا التوجه في الموقف من أصالة الفلسفة العربية الإسلامية.
يقول تنيمان، المستشرق الألماني في هذا الصدد: ” يكاد يكون سقراط مع شارحه من بين سائر الفلاسفة هو الذي استرعى أنظار العرب، وتلقوا جملة ما ألفه أرسطو، ولكن تلقوها على الحقيقة عن تراجم ناقصة جدا بوساطة المذهب الأفلاطوني المحدث… ولكن عقبات ثبطت تقدمهم في الفلسفة وهي:
ـ كتابهم المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر.
ـ حزب أهل السنة، وهو حزب قوي متمسك بالنصوص.
ـ أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطانا مستبدا على عقولهم.
ـ ما في طبيعتهم القومية من تأثر بالأوهام ومن أجل ذلك لم يستطيعوا أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو وتطبيقه على دينهم الذي يتطلب إيمانا أعمى وكثيرا ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه وبذلك نشأت عندهم فلسفة تشبه فلسفة الأمم المسيحية من القرون الوسطى.
ويقول أرنست رينان المستشرق الفرنسي: ” ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتها لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند المسلمين إلا اقتباسا صرفا وتقليدا للفلسفة اليونانية.
ويقول رينان أيضا في حجته على عدم إمكانية قيام فلسفة لدى العرب المسلمين: “العقلية السامية تميل إلى قرن الأشباه والأضداد من دون ربطها بما يجعل منها وحدة بل تتركها منفصلا بعضها عن البعض، ثم تنتقل من إحداها إلى الأخرى بوثبة فجائية، أما العقلية الآرية فالأمر عندها على العكس… وإذن فلنسم بالمذهب المفرق العقلية السامية”
وفي بيان واضح لموقف رينان من الفلسفة الإسلامية يقول: ” من الخطأ وسوء الدلالة بالألفاظ على المعاني أن نطلق على فلسفة اليونان المنقولة إلى العربية لفظ فلسفة عربية مع أنها لم تظهر لهذه الفلسفة في شبه الجزيرة العربية مبادئ ولا مقدمات”
موقف القائلين بأصالة الفلسفة الإسلامية
يرى هذا الفريق أن الفلسفة الإسلامية نشأت في بيئة الحضارة العربية الإسلامية ولم تصل إلى مستوى لائق بالتفلسف إلا بعد نضج العقلية العربية الإسلامية من خلال تعاليم الكتاب والسنة اللذان شحذا ذهنية المسلمين وزوداهم برؤية عقائدية واضحة لمسائل الحياة وساهما في تنمية التفكير العقلي ويشهد بذلك نشأة وتطور أصول الفقه وعلم الكلام من دون حاجة إلى مؤثرات خارجية، وهذا النضج الفكري لدى العرب والمسلمين أهلهم للاستفادة من التراث اليوناني والفارسي والهندي من غير ذوبان في أطروحاته، بل بقيت الأرضية الإسلامية متحكمة في الرؤية العامة للحياة.
الخلاصة
خلاصة الموقف العام لهذا التيار يمكن بيانه في موقف علي أبو ريان إذ يقول: “أن المسلمين أنتجوا فلسفة خاصة بهم، جديرة بأن تسمى فلسفة إسلامية أسهم فيها مفكرو الإسلام من الشعوب الإسلامية المختلفة من عرب وفرس وروم وسريان”.
ويرى: ” أنه على الرغم من أصالة الفلسفة الإسلامية، وظهورها عند المسلمين حينما نضجت العقلية الإسلامية ووصلت إلى المستوى الذي تستطيع أن تنتج فيه فلسفة، إلا أن المسلمين تشوقوا إلى الاطلاع على الأنظار العقلية للأمم الأخرى التي سبقتهم في هذا المجال، فنقلت إليهم فلسفة اليونان والفرس والهند وبذلك خضعوا لتأثيرات يونانية وفارسية وهندية ومسيحية وغنوصية، وقد اعترف المسلمون أنفسهم بذلك في مؤلفاتهم”.