حدود العقل في الرؤية العرفانية

حدود العقل:

بناء على ما سبق نفهم أن العقل هيئة علمية محدودة، تعتمد على آلات محدودة، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، تزودها هذه الحواس بمواد من جنسها أي الصور الجزئية لأشياء العالم الخارجي– بناء على تحديد علم النفس الكلاسيكي الذي نسجت عليه الفلسفة الإسلامية بحوثها الوجودية، والمعرفية، والأخلاقية- فكون وسائل معرفته محدودة، فإنه من التعسف تعاطيه ما يتعدى طوره وهو مجال الإلهيات، هذا من حيث التكوين- ونحن هنا نتحدث عنه من جهة ذاته باعتباره مفكرا معتمدا على آلاته التي له من جهة تكوينه – وهو الذي ينعكس في عمله المعرفي، فمثلا الشيخ العلاوي يسجل على العقل عجزه عن الجمع بين النقائض فيقول: “بحيث يصير العارف يرى واحدا في وجود اثنين أي يرى الوجود من حيث ظاهره نقطة من طين، ومن حيث باطنه خليفة رب العالمين إن لم نقل هو هو والمعنى أنه يرى الرحمن في صورة إنسان، ولا تفهم من ذلك معنى الجسمية… يقول صاحب هذا المقام: إن العبد حق والرب حق ولا يغيبه ذا عن ذا فهو جامع مانع أي جامع بين الأضداد التي لا يمكن اجتماعها في العقل، لكن يمكن اجتماعها خارج العقل، ولا تطلب في ذلك دليلا فإنك لن تحصل شيئا ولو مع وجود البرهان انعدمت في ذلك وجود الشهود والعيان، وإن فاتك ذلك فالتصديق بأهله لا يفوتك”[1].

أنى للعقل المفكر أن يجمع المتناقضات وهو الذي يرى ذلك قلبا للحقائق فالوجود مثلا يستحيل اعتباره عين العدم، لأن هذا قلب للحقائق ويستحيل الوصول إلى المعرفة ما لميقرر العقل عدم اجتماع النقيضين، إذ كما يقول الشيخ العلاوي: “يعتبر من الموت الحياة ومن الحياة الموت، لأن الأشياء كامنة في أضدادها، ولهذا قال (بل أحياء) خلاف ما يتوهمه الفكر العام من أن الحياة حياة والموت موت… وقلب الحقائق من المستحيلات”[2].

ويورد نصا آخر يثبت خاصية الحقائق التي يصل إليها الصوفي والتي ليست من سنخ العقل المحكوم بمبدأ عدم التناقض “الحس يناقض المعنى، اللهم إلا إذا كان الحس هو عين المعنى، وهذا عزيز لا يمكن للعقل أن يصل إليه، وإنما هو واجب في الابتداء (شرط وجوب) وأما في الوسط والآخر، فالغيبة عنه شرط الوصول إلى هذا المقام من وراء طور العقول”[3].

يضاف إلى ما سبق عجز العقل عن معرفة كيفية أحوال الآخرة، “أن يؤمن بلوازم اليوم الآخر… بدون ما يتكلف لمعرفة كيفية ذلك، لأن أحوال الآخرة جاءت من وراء العقول ، فيعتذر الإفصاح عنها”[4]

كما أن العقل يعجز عن إدراك نيابة حاسة عن حاسة في الإدراك أو نيابة الحس عن العقل في ذلك، وهذا من خوارق الأمور التي يتحقق بها بعض العرفاء، فـ”تصير جوارحه وصفاته تنوب عن بعضها بعضا وذلك خارج عن دائرة العقل وهو من مدهشات الأمور”[5].

والعقل عاجز عن تعقل وصول المحدود إلى اللا محدود والسير فيه إذ بينهما بينونة وجودية ومرتبية لا تخترق ولا تختصر وهذا العجز سببه محدودية مبدأ عدم اجتماع النقيضين الحاكم على عمل العقل، فالعارفون بما هم مخلوقين يستحيل عقلا أن يتحقق لهم قطع المسافة اللانهائية التي تفصلهم عن البارئ تعلى فاللامحدود ليس له حد ليوصل إليه كما كما لا يمكن تحديد وسط له فيكون الموجود داخله هذا تحليل العقل بينما يدعي الشهود ما يبطله العقل، فالعارفون”لما وصلوا ابتدأوا السير منه إليه قد ساروا أولا لله  ثم ساروا في الله – هذا شيء من وراء العقول خارج عن المعقول والمنقول”[6]، على أن المقصود بالمنقول ظاهر النص الديني لا حقيقته وإلا قلنا بمخالفة أهل الله للنص الديني وهذا مما لا يتوانون في التنبيه عليه، ومما لا يطيقه العقل المفكر أنه إذا اعتبر مرتبة أسقط ما يضادّها أو ما يقابلها فمثلا إذا اعتبر المجرد لا يقبل أن يتنزل إلى الحس مع حفاظه على تجرده يقول الشيخ العلاوي: “أهل النظر اختلفوا في ظهور الأنوار المحمدية في هذا المظهر المعبر عنه بالكتاب في اصطلاحاتهم فأما الذين يرون الوجود فارغا من ذلك، فلا يعدون في طبقاتهم، وهم المشار لهم بقوله تعالى(كلا بل ران على قلوبهم) ومنهم من يلاحظ أنواره في اللطائف، وتغيب عنه في الكثائف، ومنهم من يعرفها في النفائس وينكرها في الخسائس”[7]. والذي يقال في هذا ينطبق أيضا على حال الصوفي الذي لا يستوعبه العقل كذلك إذ “قد يصدر من العارفين ما يعجز الفكر من إهمالهم لبشريتهم وسبب ذلك ملاحظتهم لسر الجمع الظاهر في أغصان الفرق”[8].

هذه المفارقات التي ذكرها الشيخ العلاوي والتي يقبلها الكشف ويؤسس عليها هي مما يحيلها العقل ، طبعا الشيخ العلاوي لا يشذ عن التحقيق الذي أسس له الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، الذي يرى فيه أن للعقل مستويين المستوى الداني وهو الذي يظهر في أعمال المفكرين عموما، سماه مستوى العقل بما هو مفكر، هذا المستوى معروف بمحدوديته، وهناك المستوى الثاني الذي يتمكن من استخدامه أهل الكشف والمشاهدة، سمّى هذا المستوى بالعقل بما هو قابل، أي يقبل ما يجيئه من الأعلى مما يتجاوزه. إذن العقل الذي يعجز عن درك ما سبق من القضايا التي أوردها الشيخ العلاوي هو العقل بما هو مفكر الذي آلاته من سنخ المكونات ومبدؤه الحاكم عليه هو مبدأ عدم التناقض. 


[1]  أحمد بن مصطفى العلاوي، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط3، 1985، 

   ص ص 236-237.

[2]  أحمد بن مصطفى العلاوي، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط2، 1995، ج2، ص81.

[3]  أحمد بن مصطفى العلاوي، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، ص 289.

[4]  أحمد بن مصطفى العلاوي، القول المقبول في ما تتوصل إليه العقول، ص ص 23-24.

[5]  أحمد بن مصطفى العلاوي، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، ج2، ص 110.

[6]  أحمد بن مصطفى العلاوي، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، ص 297.

[7]  أحمد بن مصطفى العلاوي، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور، ج2، ص113.

[8]  أحمد بن مصطفى العلاوي، المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريف الصوفية، ص326.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *