مدارس الفلسفة الإسلامية

اختلف فلاسفة الإسلام في الطريق المؤدي إلى فهم مسائل الوجود، رغم وحدة مطلبهم وهو العلم بالوجود بما هو موجود، فتفرعت المناهج إلى مشائية وإشراقية وحكمة متعالية، والسبب كما وضح هو اختلاف الطريق المؤدي إلى الكشف عن حقيقة الوجود وحقائق الموجودات ومنه كونت كل مدرسة رؤية خاصة بها في الوجود والحياة، لها أسسها ومبادئها وخصائصها.

الاتجاه المشائي أو المدرسة المشائية

يأخذ هذا الاتجاه أصوله ومبانيه المعرفية من تعاليم فلسفة أرسطو وأفلاطون، ويعد أرسطو هو ركيزة أفكارها وقد خالطت أفكار أرسطو بعض تعاليم الأفلاطونية المحدثة نتيجة الخلط الذي تسببت فيه ترجمة تراث اليونان إلى السريانية ثم العربية. لذلك فمشائية الإسلام كانت ممزوجة بخليط من الأفلاطونية المحدثة وهذا ما نلمسه بالخصوص في فلسفة الفارابي وابن سينا.

خصائص هذا الاتجاه

– يتبع هذا الاتجاه المنهج العقلي في تحقيق مسائله وقضاياه، حتى فيما يتعلق بالأخلاق والسايسة، فهذا الاتجاه يستنبط مسائله ومبادئه العقلية من خلال الالتزام بالقواعد المنطقية.

يهتم هذا الاتجاه بالمسائل الميتافيزيقية أي الالهيات والبحوث المجردة بشكل عام.

– مرت هذه المدرسة بمراحل وأطوار كانت بدايتها مع سقراط الذي ربط الأبحاث الفلسفية بالقضايا الحياتية للإنسان من خلال الاهتمام بالأخلاق ثم جاء أفلاطون فوسع من نطاق الفلسفة من الحياة إلى الوجود والمعرفة ثم جاء أرسطو الذي لقب بالمعلم الأول والذي أسس بجهوده الفكرية هذه المدرسة وعمق أسسها من خلال بحوثه المنطقية.

– امتدت تعاليم هذه المدرسة إلى أن ترجمت الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية حيث تلقفها فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي حاول فهم هذه الفلسفة من غير أن يتجاوز حدود الإسلام كما أصل له المتكلمون سيما المعتزلة، وهكذا استمرت الحركة الفكرية في المرحلة الإسلامية في نقل أفكار اليونان وشرحها حتى برز الفارابي الملقب بالمعلم الثاني وابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس، أي رئيس المدرسة المشائية في الفكر الفلسفي الإسلامي. ما يمكن قوله أن هذين العلمين الفلسفيين استطاعا أن ينشئا للفلسفة الإسلامية كيانا مستقلا عن فلسفة أرسطو.

– يعول بناء هذا الاتجاه على حاكمية المنهج العقلي، فالاتجاه المشائي يكتفي بمجرد النظر والبرهان لمعرفة حقائق الأشياء.

– يقف الاتجاه المشائي الموقف السلبي تجاه أصول المكاشفة والشهود، لكن هذا الرفض المطلق لمعطيات المكاشفة والشهود لم يكن سائدا لدى جميع أتباع هذه المدرسة، بل هناك من آمن بأن طريق معرفة الحقائق الوجودية لا ينحصر في البرهان والاستدلال العقلي المحض وإنما يمكن الوصول إلى تلك الحقائق والمعارف بطريق المكاشفات العرفانية وهي على نحو أفضل، وقد نلتمس هذا التوجه عند رئيس المشائية الإسلامية الفيلسوف أبو علي بن سينا وخاصة في كتابه الإشارات والتنبيهات في النمط التاسع.

– الأساس الذي انطلق منه حكماء هذا الاتجاه هو اعتقادهم أن الشريعة الحقة صادرة عن مبدأ العقل، لذلك يستحيل مناقضتها لقضايا العقل الضرورية كما يستحيل مخالفة العقل لقضايا الشريعة الحقة بصفتها صادرة عن مبدأ العقل وقيوميته.

– لكن مع هذا الحرص في موافقة روح الشريعة إلا أن هذا الاتجاه انتهى في بعض نتائجه البحثية إلى ما يخالف ظواهر مقررات الشريعة وهنا يمكننا أن نرجع هذه المشكلة إلى تمسك هذا الاتجاه بمقولاته وقواعده العقلية كأنها معصومة عن الخطأ ولا تقبل النقد والتمحيص، وهذا التعارض من حيث النتائج دفع بأصحاب هذا الاتجاه إلى التفكير في المعطيات الدينية وحاولوا تطبيقها على قواعدهم الفلسفية التي انتهوا إليها ووقعوا في ورطة تأويل النصوص الدينية بما ينسجم مع النتائج العقلية ومنطلقهم في ذلك أن معطيات العقل غنية عن البحث والتفسير والنقد بينما معطيات الشريعة قابلة لكل تفسير وتأويل فكان هذا سببا في ابتعادهم عن ظواهر الشريعة.

الاتجاه الاشراقي أو المدرسة الاشراقية

مؤسس هذا الاتجاه في الإسلام شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي بعض الكتابات تنعته بالشهيد وأخرى تنعته بالمقتول. ظهرت هذه المدرسة في وقت كان أبو الوليد بن رشد منشغلا في الدفاع عن المدرسة المشائية التي تعرضت لنقد هز أسسها ومبانيها من قبل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، حيث بدأ الفيلسوف شيخ الاشراق يكون بذور اتجاهه الجديد هذا في المشرق الإسلامي من خلال كتابه “حكمة الاشراق”.

منطلقات هذا الاتجاه هي غير التي اتخذتها المشائية الإسلامية حيث النظر والاستدلال أساس كشف الحقائق بل ترى الاشراقية في الكشف والشهود المبني على التزكية محورا لها في طريقها إلى الحقائق والمعارف.
سبب تسميتها بالإشراقية: يرجع المحققون السبب ف(ي التسمية إلى طبيعة العلم النورانية التي تمكنه من الإشراق في قلب العارف، فالاشراقيون يعتقدون أن مثل القلب مثل المرآة المجلوة المصقولة محاذيا للوح المحفوظ وما عليه من العلوم والحقائق الإلهية، فكما لا يمكن أن يكون شيء محاذيا للمرآة المصقولة ولا يؤثر فيها، فكذلك لا يمكن شيء أن يكون محاذيا للوح المحفوظ وهو لا يرى في المرآة القلبية الصافية” طبعا فإن المانع من حصول الحقائق وانعكاسها في قلب الانسان هو تعلقه بالدنيا فإن ذلك مما يعكر صفو القلوب لقوله تعالى:
(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) (المطففين))
وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ سورة البقرة (7).

خصائص هذا الاتجاه

– الطريق الذي يتخذه هذا الاتجاه في وصوله إلى الحقائق ومن ثم إلى تكوين رؤية كونية شاملة لحياة، يظهر من نصوص السهروردي، إذ يقول في أحد نصوصه: “وأما أنت إن أردت أن تكون عالما إلهيا من دون أن تتعب وتداوم على الأمور المقربة إلى القدس، فقد حدثت نفسك بالممتنع أو شبه الممتنع. فإن طلبت واجتهدت لا تلبث زمانا طويلا إلا ويأتيك البارقة النورانية وسترتقي إلى السكينة الإلهية الثابتة”.

– السبيل إلى المعارف الحقيقية بالنسبة لهذا الاتجاه هو تهذيب النفس والمداومة على الأمور المقربة إلى عالم القدس والطهارة وهذا لا يعني إقصاء النظر والفكر والاستدلال العقلي بل كما يقول السهروردي ويوصي في كتبه فإنه ” لا يمكن فهم حقيقة الحكمة الاشراقية ما لم يكن الحكيم ماهرا في العلوم البحثية والمناهج الاستدلالية البرهانية” في هذا إشارة إلى أن الاشراقي المتمكن يجب أن يعمق معارفه النظرية البرهانية، بل تعد الحكمة البحثية مقدمة إعدادية للإشراقي قبل توغله في الذوق يقول السهروردي: “من لم يتمهر في العلوم البحثية فلا سبيل له إلى كتابي الموسوم ب”حكمة الاشراق” وهذا الكتاب ينبعي أن يقرأ قبله وبعد تحقيق المختصر الموسوم ب”التلويحات” (كتاب التلويحات هو كتاب فب الحكمة المشائية كتبه السهروردي قبل حكمة الإشراق).

– بناء على ما سبق فإن الحكمة الإشراقية لا تخالف الفلسفة المشائية، في إعطاء العقل والاستدلال البرهاني موقعه الخاص به، ولكن لا تكتفي بالعقل وحده في سلوكها إلى الحقيقة المنشودة، بل العقل بمثابة مقدمة إعدادية إن لم نقل جناحا ثانيا يمكن الاشراقي من التحليق في سماء الحقيقة.

– يقول السهروردي في كتابه حكمة الاشراق: ” الحكماء كثر وهم على طبقات وهي هذه: أحدها حكيم إلهي متوغل في التأله عديم البحث، ثانيها حكيم بحاث عديم التأله، ثالثها حكيم إلهي متوغل في التأله والبحث.. وأجود الطلبة طالب التأله والبحث وكتابنا هذا (حكمة الاشراق) لطالبي التأله والبحث.”

في شرحه لهذا النص يذكر قطب الدين الشيرازي هذه الطبقات، فالطبقة الأولى هم أكثر الأنبياء والأولياء ومشايخ التصوف من أرباب الذوق دون البحث الفلسفي، والطبقة الثانية هم من المشائية من أتباع أرسطو كالفارابي وأبي علي ابن سينا.. أما الطبقة الثالثة فهي أعز من الكبريت الأحمر وهم قلة يذكر منهم قطب الدين الشيرازي صاحب كتاب حكمة الاشراق.

مدرسة الحكمة المتعالية

أسس هذه المدرسة فيلسوف إصفهان صدر الدين الشيرازي والملقب بالملا صدرا الشيرازي، تجمع مدرسة الحكمة المتعالية بين مناهج المعارف الإسلامية التي سبقتها وهذا الجمع ليس تأليفا كميا بل تركيب يتجاوز عملية التجميع، فالمعارف التي تتداخل في تكوين منهج هذه المدرسة هي علم الكلام والمدرسة المشائية والإشراقية بالإضافة إلى العلوم العرفانية، وكل هذه المعارف أسست بناءا خاصا يميزها عن المدارس السابقة.

فكانت فلسفة صدر الدين الشيازي مزيجاً من البرهان والوجدان والقرآن، أو قل مزيجاً من العقل والكشف والشرع.

ميزات هذه المدرسة

الجمع بين البرهان والوجدان

أولاً: إنّ الحكمة المتعالية تتّخذ من العقل أساساً لها، ومن الشهود والمكاشفة أساساً آخر، جامعة في ذلك بين الفلسفة المشائيّة والمعرفة الصوفيّة فهي لا ترفض العقل كما يفعل العرفان ولا ترفض الشهود كما يفعل المشاؤون.

يعطي الشيرازي العلم اللّدنيّ أولوية في منهج مدرسته، فيقول: ” إنّ كثيراً من المنتسبين إلى العلم ينكرون العلم الغيبيّ اللّدنيّ، الذي يعتمد عليه السلّاك والعرفاء، وهو أقوى وأحكم من سائر العلوم”.

وفي حقيقة منهج مدرسته يقول: فأولى “أنّ يرجع إلى طريقتنا في المعارف والعلوم الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألّهين من الحكماء، والملّيين من العرفاء”.

ويقول في موضعٍ آخر في وصف كتابه الأسفار بأنه: “قد اندمجت فيه العلوم التألهية في الحكمة البحثيّة وتدرعت فيه الحقائق الكشفيّة بالبيانات التعليميّة”.

ثانياً: يقدّم الشيرازي البحث الفلسفيّ على الشهود الوجدانيّ، شفقةً بالمتعلّمين، وتسهيلاً عليهم، لأنّ الطالب قد لا يقتنع بالمشاهدة ولا يصدّق بها ابتداءً، لكنّه إذا وجد الدليل البحثيّ العقليّ واقتنع به، ثمّ سمع بالمشاهدة والكشف أمكنه التصديق أكثر.

المطابقة بين الشرع والعقل

انتهت نتائج البحث الفلسفي للحكيم في هذه المدرسة إلى مطابقة العق للشريعة: “وحاشا الشريعة الحقّة الإلهيّة البيضاء أن تكون أحكامها مصادمةً للمعارف اليقينيّة الضروريّة، وتبّاً لفلسفةٍ تكون قوانينها غير مطابقةٍ للكتاب والسنّة”. وعلى هذا فكل مسألة فلسفية عويصة لها شاهد من النص القرآني والسنة النبوية..

محوريّة القرآن

وجدت الحكمة المتعالية كمالها في الجمع بين الأدلّة، البرهان والعرفان والقرآن، وأنّه لا يوجد أي اختلافٍ بينها، وإنّما هي توافقٌ وانسجامٌ تامٌّ، نعم في مقام المقايسة الداخليّة بين هذه الطرق الثلاث، فإنّ المحوريّة والأصالة هي للقرآن، والآخران يدوران حوله، لا ينفكّان عنه”.

حدود العقل

ومن الضروريّ جداً وضوح مكانة العقل في هذه المدرسة. فقد يتصوّر أن الحقائق، التي كشفت اللثام عنها الحكمة المتعالية، يتوصّل إليها بالطرق الثلاث المتقدّمة، وأنّ ما يصل إليه الكشف والشهود، وما يحكي ويخبر عنه القرآن والسنّة، يمكن للعقل والبرهان أن يصل إليه، ويستدلّ عليه. وقد يتصوّر أنّه يوجد تنافٍ بين القرآن والوجدان من جهةٍ، والبرهان من جهةٍ ثانيةٍ، حيث إن هذه الطرق في عرض بعضها، والتنافي واقعٌ فيما بينها.

لكن الحقّ غير هذا، فإنّ هذه الطرق ليست في عرض بعضها البعض حتى يقع التنافي فيما بينها، وإنّما هي في طول بعضها البعض، ويأتي دور المكاشفة والشهود حينما ينتهي دور العقل والبرهان.
يقول صدر المتألّهين: “ثمّ إنّ بعض أسرار الدين وأطوار الشرع المبين بلغ إلى حدّ ما هو خارجٌ عن طور العقل الفكريّ، وإنّما يعرف بطور الولاية والنبوّة، ونسبة طور العقل ونوره إلى طور الولاية ونورها، كنسبة نور الحسّ إلى نور الفكر، فليس لميزان الفكر كثير فائدةٍ وتصرّف هناك”.

وينقل عن الغزالي فيقول: “قال الشيخ الفاضل الغزالي: اعلم أنّه لا يجوز في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته. نعم يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه، بمعنى أنه لا يدرك بمجرّد العقل. ومن لم يفرّق بين ما يحيله العقل وبين ما لا يناله العقل فهو أخسّ من أن يخاطب فيترك وجهله”.

تقويم هذه المدرسة

لقد استطاع “صدر المتألهين أن يجمع بين الفلسفة والعرفان، واستفاد في ذلك بالسنّة والقرآن، وبيّن المعارف الذوقيّة في صورة الدليل والبرهان، فتولّد بهذا الترتيب بين مناهج المعرفة منهجٌ حديثٌ، وسمّي بالحكمة المتعالية”. و”استطاع أن يحقّق إنجازاً ضخماً على مستوى القواعد والمباني الفلسفيّة، أدّت إلى بناء نظامٍ عقليٍّ جديدٍ قائمٍ على أسسٍ برهانيّةٍ يمكنها تفسير العالَم الإمكانيّ وعلاقته بمبدئه المتعالي”.

وقد حسمت هذه المدرسة النزاع بين الفلسفة المشائيّة والإشراقيّة، ولم يعد معنى للصراع بين أرسطو وأفلاطون في هذه المدرسة، حيث وضعت كل مسألةٍ في مكانها، واستفادت من المناهج المعرفيّة كلّها. يقول المطهري: “وقد وضع صدر المتألّهين نهايةً حاسمةً لهذا النزاع الطويل (أي بين أرسطو وأفلاطون) بالأساس الجديد الذي شاده في فلسفته. ومنذ هذا الزمن لم يعد معنى لوقوف أحد هذين الاتجاهين في مقابل الآخر. وقد لاحظ كلّ من جاء بعده واطلع على فلسفته، أنّ النزاع الذي امتدّ لألفي عامٍ بين المشّائين والإشراقيّين قد حسم على يد هذا الفيلسوف العظيم”

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *